5 فبراير 2016

أيـوب طـارش...أغنية وطن اسمه اليمن







يقف متواضعاً خلف السـلام الجمهوري والنشيد الوطني

أيـوب طـارش...أغنية وطن اسمه اليمن

                                                  أحمد الأغبري  


     لعل الابتهاج بالفن هو أفضل تحية لليمن في محنته الراهنة، ولعل أغنيته الوطنية هي أجدر مَن يبثُ هذه التحية إشراقاً وتطلعاً وأملاً بغد مشرق، ذلك الغد الذي طالما تغنى به عددٌ من فناني اليمن ومطربيه، والذين كان لهم إسهام فاعل، منذ بداية النصف الثاني للقرن العشرين، في صوغ الروح الوطنية وتعزيز قيم الانتماء والولاء.


أحمد الأغبري مع الفنان أيوب طارش

    ولا تزال أصوات أولئك الفنانين تسكن وتجدد موقعها في عقول وأفئدة الأجيال الذين يكادون يتفقون على أن معنى الوطن في نفوسهم اقترن باسم الفنان الكبير أيوب طارش عبسي (73سنة)، وهو الفنان الذي لا يختلف على أفضليته اثنان في اليمن، بدليل أن أغانيه الوطنية تكاد تكون الأكثر ترديداً في مدارس وجامعات اليمنيين وخلال مهرجاناتهم ومؤتمراتهم ومسيراتهم ومظاهراتهم وفي إذاعاتهم وتلفزيوناتهم.

    وقبل ذلك وبعده فهذا الاسم الكبير يقف متواضعاً خلف لحن السلام الجمهوري وصوت النشيد الوطني، وبات هذا الفنان العظيم من خلال لحنه وصوته نغمة يعرفها ويميزها ويستعذبها ويبتهج بها كل اليمن؛ لأنها باختصار حكاية تختزل هذا الوطن.

     لم يغن أيوب طارش للوطن فقط، فعلى مدى تجربته الفنية التي تتجاوز خمسة عقود، غنى لليمن بعناوينه المختلفة: الإنسان، الأرض، الريف، البيئة والطبيعة الجميلة، معاناة الحياة بيومياتها وقضاياه الاجتماعية، حكايا العشاق ومعاناة الحب التي كان لسانها، وقضايا الوطن التي كان صوتها.. واستطاع خلال تجربته التي تنقل فيها بين ألوان الغناء اليمني وبعض لهجات بلده مستخدماً بمهارة موروثه الشعبي ومطوراً ببراعة القالب اللحني والأداء الغنائي، أن يمثل إضافة نوعية للأغنية اليمنية وفصلاً جديداً في تاريخها وأن يتموضع بجدارة ضمن قائمة أهم أصواتها وفي مقدمة أسماء الأغنية الوطنية لكثرة أعماله وتفرد رصيده بنوعية فنية عالية جاءت جميعها خالصة لوجه الوطن لدرجة أنه وعلى مدى تجربته الفنية ،وعلى الرغم من علاقته بعدد من رؤساء وقادة اليمن لم يغن لأي منهم.

    خلال محاولة كاتب السطور التواصل مع الفنان أيوب طارش في مدينة تعز /جنوب وسط اليمن، حيثُ يسكن ويعيش منذ طفولته؛ جاءت رسالته الهاتفية تفيد أنه غادر بعائلته المدينة نازحاً إلى إحدى قرى الريف جراء الحرب الدائرة التي تمثل مدينة تعز إحدى ساحاتها الساخنة...في تعبير جلي عن عظمته؛ فهو لم يستغل فنه وأغنيته لمصالحه، بل ظل مترفعاً يعيش بين الناس بسيطاً متواضعاً يستقر معهم وينزح معهم...وعلى ذكر ذلك لابد من الإشارة إلى أن هذا الفنان لم يثر من فنه، بل ظل يعتمد في حياته على عمله في سلك الوظيفة العامة، ويتحمل نفقات أعماله الفنية هاوياً محترفاً، ولم يُظهر ندماً أو تذمراً، على الرغم من الظروف القاسية التي مر بها.  
     
  ونحن نتتبع سيرة أيوب طارش يتجلى لنا فنان حقيقي في نضجه الفني وحسه الإنساني ودماثة الخلق واستقامة السلوك تحت مظلة رؤية واعية لماهية علاقة الفنان بالإنسان والوطن والمجتمع.
   
     بدأت علاقته بالغناء من طفولته التي عاش سنواتها الأولى في مسقط رأسه ميلاده محافظة تعز سنة 1942م، ومن تعز سافر    إلى مدينة عدن سنة 1953م، وهناك عبرت موهبته عن نفسها وظهرت أغانيه الأولى في إذاعة تعز مع بداية عقد الستينيات، وكانت أغنيته الأولى "بالله عليك ومسافر " من كلمات أخيه محمد طارش.
   
    على الرغم من شغفه بالفن لم يترك تعليمه؛ فواصل دراسته حتى تخرج من الثانوية العامة بعدن، وبعد عودته إلى تعز سافر إلى القاهرة والتحق بمعهد الموسيقى العربية لمدة عامين في دراسة حرة عاد بعدها إلى بلاده مواصلاً مشواره الفني الذي تبلورت خلاله وتطورت أغنيته، وتنقل في انتاجها بين عدد من العواصم، وتواصلت حفلاته داخل اليمن وخارجه، وتعزز حضوره اسماً كبيراً لمدرسة خاصة من مدارس الأغنية اليمنية وأهم قامات أغنيتها الوطنية.



     زميله الفنان عبد اللطيف يعقوب، وهو عازف على آلة العود في الفرقة الوطنية للموسيقا، يؤكد »أن تجربة أيوب طارش مع الأنشودة والأغنية الوطنية بدأت مبكراً وبرع فيها منذ بداياته، منطلقاً من روح إنسانية نقية و وعي وطني و حس فني عاليين،ولهذا فإن أغانيه الأولى في هذا المجال مثل »بلادي بلاد اليمن« و»عشت يا سبتمبر التحرير« وغيرها ظهرت بمستوى لافت وعكست عبقريته المبكرة التي ظلت تفاجئ جمهوره بتطورها المدهش في أعماله المتلاحقة التي ظل فيها متابعاً لكل المناسبات ومعبراً عنها بحس وطني والتزام فني خالص للوطن».
ويرى مدير البيت اليمني للموسيقا والفنون فؤاد الشرجبي أن أيوب طارش استفاد في الأغنية الوطنية »من الموروث الشعبي الذي نهل منه كثيراً علاوة على حساسيته العالية تجاه الكلمات الشعرية وتميز ألحانه التي لم يستخدم فيها الكثير من المقامات الموسيقية بل كان يتنقل في ألحانه بين عدد بسيط منها بحنكة ومهارة نادرة لدرجة لم يحدث أن تشابهت ألحانه، وهي سمات تكاملت مع عذوبة صوته ومخارج حروفه الواضحة».
 على الرغم من أنه تعامل في الأغنية والأنشودة الوطنية مع عدد من الشعراء اليمنيين، كالراحل عباس المطاع وعباس الديلمي وأحمد الجابري وغيرهم.. إلا أن تجربته مع الشاعر الراحل (عبدالله عبدالوهاب نعمان) تبقى منعطفاً مهماً كان له الأثر البالغ في أغنيته، ولعلها أكثر تجاربه مع الشعراء نجاحاً لعدة عوامل منها -وفق النقاد- قدرة الشاعر والفنان على انتقاء الكلمات وتطويعها والتقريب بينها وبين الفصحى واختيار القالب الموسيقي المناسب فظهر بسبب ذلك عدد من الروائع الغنائية، وأروعها أنشودة »رددي أيتها الدنيا نشيدي« والتي تُعد تجربته اللحنية والغنائية لها محطة هامة في مسيرته الفنية وتميز فيها بحسن اختيار الكلمات التي كان فيها الشاعر الراحل عبدالله عبدالوهاب نعمان أكثر براعة في صوغها في صور شعرية قوية اختزلت عدداً من المفاهيم والقيم والقضايا والمواقف في سياقات تعبيرية وأوعية موسيقية جاء معها اللحن معبراً عن المعاني بسلاسة وبساطة ووضوح في قالب احتفالي حماسي بالإضافة إلى سمات كثيرة فازت من خلالها هذه الأنشودة بعد سماعها من الفنان لأول مرة باختيار الرئيس اليمني الراحل إبراهيم الحمدي بصنعاء لتكون هي أنشودة احتفال عيد الثورة عام (1977)م، ومن ثم فازت باختيار الرئيس علي ناصر محمد بعدن عام (1982)م لتكون سلاماً جمهورياً ونشيداً وطنياً للدولة في جنوب اليمن ،حيث طلب حينها الرئيس علي ناصر من أيوب أن يصوغ من العمل سلاماً جمهورياً ونشيداً وطنياً، وهو العمل الذي اتفقت عليه واختارته لجان الوحدة ،فيما بعد، ليكون سلاماً ونشيداً وطنياً للجمهورية اليمنية. وتقديراً لتجربته في رفد الأغنية اليمنية ومسيرته في تطوير وتطويع الأغنية الوطنية نال العديد من الأوسمة والدروع والجوائز وتم تكريمه من قبل من عدد من رؤساء وقيادات اليمن والجامعات والمؤسسات.
نخلص إلى أن الفنان أيوب طارش قد استطاع أن يمثل نموذجاً نادراً وحالة فنية لا تتكرر…يقول الفنان فؤاد الشرجبي:« لقد تميز بأنه ظل صادقاً لإحساسه ومخلصاً لرسالته فجاءت أغنيته متميزة في سماتها الموضوعية والفنية في مخاطبة الوجدان الوطني والشعبي لكل الناس.. لدرجة أن أغنيته الوطنية تتردد في كل المدارس والمعسكرات والأحزاب ويسمعها اليمنيون يومياً في كل إذاعاتهم وقنواتهم التلفزيونية.. بمعنى أنه استطاع بوعيه ووطنيته أن يكون محل أجماع ساسة اليمن وشعبه.

* مجلة دبي الثقافية 
* الصور بعدسة المصور فؤاد الحرازي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق