أحمد الأغبري- مجلة دبي الثقافية
لهذا لم يكن مستغرباً سرعة تجاوزه أسوار محليته في سنوات وروايات قليلة ليحقق حضوراً إقليمياً وعالمياً، وتترجم بعض رواياته إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والكردية وغيرها من اللغات، وتصبح تجربته محط احتفاء وتكريم، آخرها تكريمه في باريس منتصف أكتوبر/تشرين الأول، بإحدى جائزتي الرواية العربية (جائزة التنويه) التي يمنحها معهد العالم العربي ومؤسسة جان لوك لاغاردير، وذلك عن روايته المترجمة للفرنسية «حُرمة»، والتي أثارت جدلاً في موضوعها عن الكبت الجنسي للمرأة في مجتمع ذكوري.
على الرغم من أهمية الجائزة بالنسبة للكاتب، إلا «أن الكاتب الذي تشغل هواجسه كتابة الرواية في كل وقت فإن أجمل جائزة له هي إنجازه للرواية نفسها»، يتحدث علي المقري لمجلة دبي الثقافية، مؤكداً في الوقت ذاته أهمية فوز الكاتب بجائزة خصوصاً «في مجتمعاتنا العربية، حيث التقدير للكاتب ما زال غائباً، ومعظم منجزه مازال محاصراً بالمنع والمصادرة؛ وبالتالي فإن جائزة كهذه تكون مهمة لجهة التقدير والاعتراف بمنجزه، لنقل أيضاً كتشجيع ودعم مالي ليواصل الكتابة».
رواية علي المقري مفتوحة على قراءات متعددة، وعلى الرغم من أنها تنطلق من بيئة محلية، إلا أنها تخاطب في القارئ أزماته الإنسانية، ففي رواياته الأربع اشتغل الكاتب على معاناة الآخر من التهميش وأهمية التنوع وإمكانية التعايش تحت سماء الوطن (الحُلم) منطلقاً من اليمن، فتناول معاناة المهمشين السود في مجتمع إقصائي في رواية «طعم أسود.. رائحة سوداء»، والعلاقة الشائكة بين المسلمين واليهود في مجتمع مُسلم في رواية «اليهودي الحالي»، ومعاناة المرأة في مجتمع منغلق في رواية «حُرمة»، لتأتي رواية «بُخور عدني» متجاوزة رحلة البحث عن وطن إلى إعادة تفكيك مفهوم الوطن والحديث عنه من جديد، من خلال تناول التنوع والتعدد والتعايش بين القوميات والأجناس، الذي عاشته عدن منذ أربعينيات إلى سبعينيات القرن الماضي، مشتغلاً على أزمة الهوية في محاولة للتعبير عن معاناة الإنسان مع المكان، وهو في هذا لم يقدم إجابات بقدر ما أثار أسئلة، لتبقى الرواية مفتوحة على إجابات لانهائية.
في هذه الرواية يبدو الوطن بالنسبة للمقري «كمحنة لها جوانب كثيرة، سواء كانت تاريخية أم أيديولوجية مفاهيمية. ومن منطلق هذه الزاوية السردية لا أراني قد قلت شيئاً أو حاولت أن أقول في رواية «بخور عدني»، فالرواية تختبر أسئلة الوطن والبديل عن الوطن، كمحنة إنسانية، دون أن تقدم إجابة أو قولاً فصلاً لهذه الأسئلة. أظن أن الروائي الذي يقدّم أجوبة أو أفكاراً جاهزة يكون قد ابتعد عن الفن الروائي».
من أهم ما يميز مضمون رواياته تناول المقري المسكوت عنه بجرأة وحرية لا تسالم التقاليد ولا تعترف بالقيود، وهو ما عبرت عنه بقوة رواية «حُرمة» ويدافع المقري عن حريته باعتبار الكتابة والحرية تسيران معاً وعلى الكاتب أن يمضي مع الكتابة الحرة إلى أقصى حد «فالكتابة مغامرة كالحياة، ويبدو لي أن على الكاتب أن يمضي فيها إلى أقصى حد. وأي كاتب لا يكتب ضمن فضاء حر وبدون قيود، فإن كتابته ستبدو ركيكة ولا تتجاوز السرديات المكبّلة بقوانين المنع والتقليد».
وبخصوص معوقات القراءة التي قد تظلم النص بأحكامها الأخلاقية المنطلقة من قناعات مسبقة وبعيدة عن الفضاء الفني.. يؤكد الكاتب التمسك بالحرية مهما كانت معوقات القراءة «لا أظن أن على الكاتب أن يعمل حساب معوقات القراءة وغير ذلك. وهو بالتالي ليس عليه سوى أن يكتب بكل طاقته المتوفرة والمرجوة منه». ويذهب في دفاعه عن الحرية إلى رفض اعتقاد بعض النقاد بأن الكاتب، مع كل تلك الحرية والجرأة، قد يفقد توازنه السردي بين الواقع والخيال وقد ينحاز أحياناً للواقع.. موضحاً أن «الكاتب يفقد توازنه السردي مع القيود المكبّلة لحرّيته، فقط».
يتكئ المقري في سرديته على لغة لا تنفك عن الهاجس الشعري بمفهومه السردي، وتشي عن رؤية متقدمة للكاتب في البناء اللغوي إذ تجيد الاشتغال على الدارج اليومي والفصيح بمزاوجة تخدم الرؤية والفكرة والفن، انطلاقاً من وعي ومعرفة وحساسية عالية بإيقاعات السرد في سياق بنية النص كاملاً « أنا أهتم باللغة وإيقاعاتها السردية، سواء من خلال اختيار المفردة أو تركيب الفقرة والعبارة. ومن هذا المستوى يمكن معاينة بناء النص كاملاً في ضمائره وتحولاته الشكلية».
ما طرحه الكاتب يقودنا إلى تساؤل مهم عن مفهوم شعرية الرواية، والحاجة إلى التصوير الجمالي البلاغي في خدمة التعبير السردي.. هنا يرى المقري أن «البلاغة بمفهومها البنائي التقليدي لم تعد صالحة حتى للقصيدة الشعرية، فما بالك بالكتابة الروائية». موضحاً أن «الشعرية في الرواية لا تتحقق من خلال اللغة الساردة والتي يجدها البعض في الرومانتيكية، بل هي في مختلف جوانب البناء السردي».
ويدافع عن طريقته في التعامل مع شخصياته الروائية والتي تفاجئ القارئ، أحياناً، بتحولاتها وتنقلها على مسرح الأحداث بشكل قد تبدو غير مقنعة أحياناً، موضحاً أنه «لم يعد هناك من بناء تقليدي للسرد. ولهذا تتعدد الطرق السردية في كل رواياتي وليس هناك من وجهة مدرسية أو محددة سلفاً».
وفيما يرفض تصنيف رواياته بالتاريخية، يوضح الكاتب أنه يتعامل مع التاريخ في رواياته « كمحنة إنسانية يعيشها شخوص الرواية ويتشكلون منه وفيه» ليؤكد علي المقري إيمانه برواية تأبى التأطير، انطلاقاً من اعتقاده «أن مقولات الرواية الواقعية لم تعد قادرة على التعامل مع أسئلة الرواية القلقة، والتي تأبى التأطير والتحديد الأيديولوجي، سواء باسم الواقع أو التاريخ أو الالتزام بقضية ما».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق