أحمد الأغبري
يا
لفتنة هذا المنظر الذي تتجلى فيه المدينة بمنازلها الطينية المشرئبة والمتكئة على
بعضها على امتداد تكوينها بين لسان الوادي الخضير الذي يطوقها بحقوله وأشجاره ، والجبل
الذي استقرت في سفحه نابتة على صخوره مصطفة على منحدراته ؛ في هيئة ساحرة، كأنها
تحرس الوادي وتتأمل فتنة المنبسط .
وأنا
اقترب من المدينة، كنت أشعر كأني أسمع صوت التاريخ، وأتنسم أريج حضارة زمن موغل في
القدم...بل كأني بذرات تراب واديها وأحجار وصخور الجبل الذي يحتضنها تحكي لي قصص
وذكريات الدأب الإنساني المبدع منذ العصر الحجري وانطلاق سفينة نبي الله نوح عليه
السلام، حيث أكدت دراسات حديثه أن منطلقها كان من وادي الهجرين، هذا الوادي الذي
كشفت فيه التنقيبات الآثارية عن شواهد تعود إلى حضارة قوم عاد وغيرها من آثار
ممالك عديدة مرّت من هنا، أبرزها مملكة كندة، التي اتخذت من "دمون
الهجرين" قاعدة للحكم، وفيها كان مسقط رأس شاعر العرب في الجاهلية امرئ
القيس، الذي ملك كندة بعد مقتل والده وائل بن حجر الكندي...وهو تأريخ لم يتوقف عند
مرحلة معينة، بل انتقل بالمدينة إلى مراحل عديدة ما تزال بقاياها متناثرة في أكثر
من مكان هنا...ويكفيها من كل تلك الشواهد هذا البهاء الإنساني معماراً وطبيعة
وانتظاماً ووداعة وثراء فني.
من
فرط انبهارك برهبة المنظر وقد صرت قريباً من المدينة – ربما - قد ينتابك شعور بأنك
في عالم أسطوري، وأنك أمام مدينة تحوز من الفرائد ما يجعلها دون قدرة بصرك وبصيرتك
على نقل وترجمة عظمتها واستيعاب إدهاشة جمال مشهدها .
عندما
تنظر إليها متأملاً سحر واجهات مبانيها الطينية وتلاصقها وتطاولها على منحدرات
صخور شاهقة، ستستغرق في دقة وبراعة طرازها الهندسي ونسيجها المعماري الممتد شمالاً
وجنوباً وخصوصية شوارعها الضيقة، وهيئتها الجمالية ذات الطابع الخاص، وثرائها
الفني العريق والمتنوع، وإطلالتها الساحرة على الطبيعة الخلابة للحقول الخضراء
وأشجار السدر والنخيل المتسامقة حولها، مندهشاً من أهمية موقعها بين واديين
وموضعها المنيع في حضن جبل حصين لا يتصل ببقية جبال هضبة حضرموت...كل ذلك ستشعر
معه كأن التاريخ، يتلخص أمامك في فسحة ضيقة من الزمان والمكان.
التماهي
مع الجبل
هنا...تنام
هذه المدينة وادعة في حضن جبل، وتشرف مبتهجة على وادٍ خضير يطوقها من جميع الجهات؛
متجلية كعروس بين البساتين المثمرة الظليلة، متباهية بفتنتها التي يتمازج فيها
الجمال بالأصالة ... في مشهد تظهر فيه المدينة للقادم إليها آية من آيات الإبداع
المعماري الطيني، وأكثر إبهاراً في تقارب وتلاصق وتكوم بيوتها وتطاولها وامتدادها
إلى حواف المنحدرات الشاهقة في سياق نسيج تظهر معه المدينة كأنها كتلة معمارية
واحدة متماهية مع الجبل الذي يحتضنها ولون تراب الوادي الذي يحيط بها.
وهي
بذلك تكون من أقدم وأجمل حواضر المدن التاريخية اليمنية، وقد كانت، قبل الحرب
المستعرة في اليمن، مقصداُ للزوار من السياح والمثقفين والفنانين للاستمتاع
بمناظرها الطبيعية، وبيئتها الفنية البديعة، ومواقعها التاريخية الحافلة بآثار حقب
وعصور سحيقة.
تبدو
المدينة بتناغمها مع الصخور من تحتها والوادي من حولها كأنها مدينة معلقة تماهى
فيها الجبل بالمعمار...كل تلك الدهشة وذلك الذهول وأنت لم تدخل المدينة بعد، فالادهاشة
الحقيقية للحكاية ماتزال في الداخل.
التفاصيل
بمجرد
أن تدخل المدينة وتسير في شوارعها الضيقة، متأملاً معمارها وانتظام تخطيطها، متنقلاً
بين أحيائها ومساجدها ومزاراتها ومعالمها... ستجد نفسك كأنك تنوس بين أزمان عديدة،
مرتحلاً بين الماضي والحاضر، منبهراً بكل شيء تشاهده أمامك؛ إذ أن لكل بيت و مسجد
و دكان و شارع و حي نكهة أخرى ولون مختلف من ألوان الجمال...مشاهد متلاحقة ستجد
نفسك أمامها عاجزاً عن وصفها وبخاصة مشاهد المعمار وغيرها من التفاصيل التي تعكس مدى
خصوصية براعة وعبقرية الإنسان، هنا، في التعامل مع الطين تعميراً وتنظيماً ووظيفة؛
فجاءت المدينة منظومة في نسيج فني نابض بروح إنسانية وفياض بالجمال، وهو جمال تبدأ
وتكتمل حكايته في حياة وصفات أهلها الحميدة الوديعة الأصيلة.
وكم هي روعة تلك اللحظات، وقد صرت– الآن -
على سطح أحد بيوتها مرتفعة الطوابق، والمشيدة على أحد تلك المنحدرات الشاهقة
المطلة على الوادي ...إنه منظر وإحساس لم تعشه سابقاً، ولن يتكرر بالطبع، وستتقزم –
بالتأكيد- لغتك أمام محاولة وصفه وتصويره.
تقع مدينة الهجرين على بعد نحو
(100كم) في الجنوب الغربي عن مدينة سيئون/حضرموت (شرقي اليمن)، و تتوسط المدينة
وادي دوعن من الجهة الشرقية ووادي الغبر من الجهة الغربية، واللذين يلتقيان شمال
المدينة، ثم ينحدران إلى وادي حضرموت الكبير ... (تبعد محافظة حضرموت عن العاصمة
صنعاء نحو 794 كيلو متراً شرقاً).
شواهد ومآثر
يمتد تاريخ المدينة إلى ما قبل
الميلاد، وهو تاريخ تتحدث عنه كثير من الشواهد والمآثر التي تزخر بها المدينة، ومن
أبرز تلك الشواهد ما تحتضنه في قمة جبلها الحصين من آثار قوم عاد وارتباط ربوعها
بتاريخ عددٍ من ممالك اليمن القديمة، علاوة على الخصوصية التاريخية لمبانيها
ومساجدها وشهرتها بعددٍ من المدارس الدينية والأعلام المتصوفة، وقبل ذلك ارتباطها
بـ "دمون" التي استقر فيها ملوك كندة...و دمون كانت إحدى قريتين يقول
بعض المؤرخين إنهما شيدتا قديماً على أحد طرفي هذا الجبل، ومن ثم اتصلت بالقرية
التي شيّدت على الطرف الآخر وأصبحتا بلدة واحدة هي "الهجرين"، وهذا
الاسم في القاموس مثنى مفرده "هَجر" بمعنى قرية في اللغة العربية اليمنيّة
القديمة.
ومن أقدم
الدلائل إلى هذا الاسم ما ورد في بعض النقوش القديمة، منها نقوش تعود إلى القرن
السابع قبل الميلاد، ولعل أقدم إشارة تاريخية لهذا الاسم، هي التي وردت في دراسة للباحث "مرعي مبارك بن
رباع" نال بموجبها الماجستير من جامعة عدن، تتبع فيها تاريخ منطقة
الكسر بوادي دوعن حضرموت خلال الفترة من
القرن السابع قبل الميلاد و حتى منتصف القرن السادس الميلادي، وأوردت الدراسة
أسماء قرى وأودية الكسر بعضها ما زالت محتفظة بتلك الأسماء الواردة في نقوش ما قبل
الميلاد وأخرى اختفت، ومن أسماء تلك القرى التي ورد ذكرها في تلك النقوش، بناء على
هذه الدراسة، اسم "الهجرين".
دمون
وذكر لسان اليمن أبو محمد الحسن الهمداني في
كتابه "صفة جزيرة العرب" أن الهجرين "قريتان متقابلتان في رأس جبل
يطلع إليه من كل جانب يقال لأحدهما "خيدون" وقد سكنها بنو الصدف من كنده
وللأخرى "دمون" وسكنها بنو الحارث ،ومنزل كل رجل مطل على ضيعته، ولهم
غيل يصب من سفح الجبل يشربون منه، و زروع هذه القرى النخيل والذرة والبر."،
و ذكر آخرون أن تلكما القريتين مع تقادم الزمن قد اتصل بعضهما ببعض وأصبحتا بلدة
واحدة...بينما اعتبر مؤرخ ثالث أن"خيدون" و"دمون" كانتا جزأين
لبلدة صغيرة يقال لها "المنيظرة" وكانت تقع في أسفل السفح الشرقي لجيل
الهجرين. وحسب مصادر أخرى فان دمون"اسم لساقية (مجرى ماء)؛ وهي واقعة في حضن
جبل فارد جاثم على الأرض من غير عنق في حضرموت، وموقع الهجرين في جنبه الأيسر
وآثار دمون في جنبه من جهة الشمال. وتكاد
تلك المصادر متفقة على أن "دمون" هذه ورد ذكرها في سيرة ملوك كندة ومن
سكنوا في شرق اليمن باعتبارها مدينة ملكهم ومسقط رأس الشاعر الجاهلي امرئ القيس، الذي
عاش السنوات الأولى من عمره بمنطقة صيلع "دمون الهجرين" بحضرموت وفيها قال:
كأني لم أبت
بدمون ليلة / ولم أر الغارات يوما بعندل
ويقال أيضاً عن بعض تلك المصادر إن: "عندل"
هو اسم منطقة في ضواحي الهجرين ماتزال
تحمل ذات الاسم، وتقع على مدخل "وادي عمد" أحد أودية حضرموت الشهيرة حسبما
اتفقت عليه بعض الروايات.
وعلى الرغم من تضارب الروايات في
تحديد العمق التاريخي للمدينة فإن جميع الروايات تلتقي مؤكدة على عراقة المكان
والمدينة الكائنة وتاريخها الممتد إلى ما قبل الإسلام، وكذا ارتباطها التاريخي بـ "دمون"،
وعلاقتها بامرئ القيس، وهو ما أكدته العديد من كتب الأدب والتاريخ.
وتبقى – في الأخير - هذه المدينة
بحاجة إلى مزيد من الاهتمام على صعيد التنقيبات والدراسات الآثارية للنبش في
تاريخها، وهو عمل يحتاج بالتأكيد إلى جهود كبيرة، وانطلاقاً من ذلك أدرجت الحكومة
اليمنية هذه المدينة ضمن قائمة المدن التاريخية الوطنية وأعلنتها محمية تراثية
تاريخية، كما تقدّمت إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)
بطلب لضمها إلى قائمة مدن التراث الإنساني العالمي، خصوصاً وأنها تزخر بمآثر
وشواهد عديدة تؤشر لحاجتها الماسة لجهود دولية لإعادة اكتشافها.
المساجد
وأنت ماتزال تتنقل بين أحياء هذه المدينة ستجد
نفسك مستسلماً للمشهد متنقلاً معه دون شعور بمن حولك ممن يلقون إليك بالتحية من
أهلها مرحبين ببشاشة عربية أصيلة...وبينما أنت في غمرة تلك الرحلة ستجد نفسك مشتهياً
زيارة مساجدها، التي تنتشر في كل إرجائها، حيث تزخر المدينة بأكثر من عشرة
مساجد... والأكثر إثارة للانبهار مواقع تلك المساجد وسط الأحياء، وبناءها البديع، وتاريخ
بعضها الذي يمتد إلى أكثر من ألف عام، وقد مثَّل بعض هذه المساجد منارات تربوية
وفكرية تخرج فيها العديد من العلماء عبر حقب من التاريخ الإسلامي للمدينة...ومن
أبرز هذه المساجد مسجد جامع الهجرين الذي يعود تاريخه إلى ما قبل القرن السادس للهجرة،
وقد بني في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم...ويتوسط هذا المسجد المدينة، ويمتاز
بطراز معماري يجعل منها تحفة فنية تظهر كفص وسط
فسيفسائية اللوحة المعمارية للمدينة.
ومن المساجد
الهامة الأخرى في الهجرين مسجد "باكزبور" نسبة إلى مؤسسه، ويعود تاريخه
إلى سنة 750 هجرية...ولعل لكل مسجد في هذه المدينة تاريخ وحكاية تنتظر من يفرغ لها
جهداً للدراسة والرواية .
كما ارتبط ذكر المدينة بأسماء عدد من الأعلام الذين سكنوها،
ومن شواهد ذلك حتى اليوم، ما يعرف بمقام "الإمام المهاجر"، والذي كان من
أهم مقاصد طلاب علوم الدين في المدينة والوادي، وكان يسمى هذا المقام سابقاً
"غرفة المهاجر"، وهو أحمد بن عيسى المتوفي في عام 318هجرية، وكان أحد
ابرز علماء الدين الذين قدموا إلى المدينة واستقروا بها...وعندما مات بنيت على
ضريحه قبة كبيرة صارت اليوم مزاراً سياحياً ودينياً بجانب العديد من المآثر الأخرى
التي تؤكد المكانة الدينية التي كانت تمثلها المدينة عبر تاريخها الغابر، لدرجة
قيل إنه كان فيها، قديماً، مفتون على الأربعة المذاهب.
المياه
بالإضافة إلى المساجد لا يمكنك مغادرة
المدينة دون مشاهدة الصهاريج، التي تشتهر المدينة بالعديد منها، وقد كانت هذه
الصهاريج تستخدم قديماً لخزن المياه وإمداد المدينة بها...ومن أهمها تلك الموجودة على قمة جبل المنيصور، والتي يحرص زوار
المدينة للصعود إليها ومشاهدتها، خصوصاً وأنها تتميز ببناء بديع مرصع بنقوش ورسوم
ذات دلالات هامة تعزز من قيمتها التاريخية العريقة.
وأنت تقف الآن في قمة الجبل الذي يحتضن هذه
المدينة متأملاً الوادي من حولك ستعيش لحظات تغمرك فيها أحاسيس ومشاعر تحلق بك
بعيداً متجاوزاً عظمة جمال المنظر إلى الأهمية التي اكتسبتها المدينة في التاريخ
القديم بدءاً من أشجار اللبان التي ماتزال منتشرة في الأودية المجاورة، فضلاً عن
الموقع الحصين المنيع للمدينة على ملتقى طرق القوافل التجارية القديمة، والتي كانت
تمر من هنا مما ضاعف من أهمية السوق التجارية للمدينة.
ليست هذه المدينة هي وحدها الزاخرة بمآثر وشواهد
تاريخية؛ فضواحيها كذلك، وهو ما ستشاهده وأنت في طريق مغادرتك المدينة، وفي مقدمة
تلك الشواهد كهف ومغارة قرية "القزة"؛ وهو كهف يعود تاريخه إلى العصر
الحجري كشفته تنقيبات أثرية...وغيرها من الشواهد تقف من خلالها على مرحلة تاريخية
موغلة في القدم.
المكان كله هنا كأنه مخطوطة تاريخية لحكاية لم
تكتب فصولها بعد... فصول وحكايات تنتظرنا لنقرأها ونرويها؛ وهي رواية مفتتحها هذه
المدينة التي اختزلت التاريخ وتجاوزت الجغرافيا؛ مدينة يتضوع الشعر بين أرجائها، ويمشي
الفن على قدميه بين أحيائها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق